1225599
1225599
روضة الصائم

الغيرة بين الزوجين

24 مايو 2019
24 مايو 2019

حمادة السعيد -

الأسرة هي أساس المجتمع، لذلك اهتم الإسلام ببنائها أشد الاهتمام ووضع لها رسول الله صلى الله عليه وسلم خطوات تسير عليها وحقوقا تحترم من جميع أعضائها.

ولما كانت الأسرة الصالحة هي اللبنة الأساسية لبناء المجتمع الصالح الذي ينعم بنور الإيمان فقد وضع الرسول صلى الله عليه وسلم شروطا وبين ضوابط لاختيار الزوجين وبعد قيام الزوجين باستيفاء شروط الاختيار وعقد النكاح تبدأ جملة من الحقوق والواجبات تجاه كل منهما للآخر وهناك حقوق مشتركة بين الزوجين ومنها الغيرة بين الزوجين والاعتدال فيها.

يقول د. عبد العزيز الفوزان أستاذ الفقه مبينا بعضا من الحقوق المشتركة بين الزوجين والذي عدها من حُسن المعاشَرة ومنها الاعتدالُ في الغيرة، والابتعاد عن الظنون السيئة، والأوهام الفاسدة، إلا بدليل بيِّنٍ، وحجة ظاهرة. فالغيرة على الزوجة حقٌّ من حقوقها، فيجب على زوجها أن يغار عليها، ويحرص على صيانتها وحفظها، فلا يعرِّضها للشُّبه ومواطن الريب، ولا يتساهل معها فيما قد يفسد شرفها ومروءتها، ويُطمع ذوي القلوب المريضة بها، من سفورٍ وتبرُّج، واختلاط بالرجال الأجانب وخلوة بهم، وخضوع بالقول معهم، ونحو ذلك، فهذه غيرة محمودة، وهي من كمال الرجولة والإيمان، ومن تمام المحبة والنُّصح للزوجة.

ولكنه لا يجوز له بحال أن يسيء بها الظن، ويتجسس عليها، ويتهمها بما هي بريئة منه، فيؤول كلامها، ويشكُّ في تصرفاتها، من غير مستند صحيح؛ فإن هذا من الظلم، ومن أعظم أسباب التنغيص والتكدير؛ ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من الغيرة ما يحب اللهُ، ومنها ما يبغض اللهُ؛ فأما ما يحب الله من الغيرة، فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغض الله، فالغيرة في غير ريبة». وقال سليمان - عليه السلام - لابنه: «يا بني، لا تكثر الغيرةَ على أهلك؛ فترمى بالسوء من أجلك وإن كانت بريئة».

كما أنَّ غيرة المرأة على زوجها دليلٌ على محبتها له، وحرصها عليه، ولكنها لا يجوز لها أن تسيء به الظن من غير ريبة، أو تتهمه بالشرِّ من غير بيِّنة، ولا أن تبالغ في الغيرة عليه، فتؤذيه وتحرجه بكثرة السؤال والاتِّصال، والتقصِّي والمتابعة، وتحاصره وتستجوبه كلما دخل وخرج: لماذا ذهبت؟ وإلى أين؟ ومع مَن كنت؟ وهكذا، كأنه طفل صغير. فالغيرة تبلغ عند بعض الزوجات حدًّا يجعلها تصر على مصاحبته كلما خرج، أو أن يظل معها في البيت، فتعزله عن الناس، أو تحرجه أمامهم، وربما حملتْها الغيرةُ على التجسس عليه، والتفتيش في أوراقه، وسيارته ومكتبه؛ علها تعثر على دليل إدانة تحاسبه عليه، وهذا كما أنه منهيٌّ عنه شرعًا؛ فإنه يملأ قلبَ الزوج حنقًا وغيظًا، وهو من أعظم ما يكدر الحياةَ الزوجية، ويسبب الفصام والشِّقاق بين الزوجين.

وجاء في سلسلة إيمانيات لمحمد إبراهيم حسان كلاما مفاده: أن من حق الزوج أن يغار على زوجته، بل أن الزوج الذي لا يغار على زوجته أو يقر الخبث في بيته فإنه رجل ديوث، لا يدخل الجنة إلا إذا شاء الله وتاب عليه كما أخبرنا رسول الله، في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود وغيره-: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث -أي: الرجل الذي يقر الخبث في أهله ولا يغار على أهله - والمسترجلة من النساء)، يعني: المرأة التي تتشبه بالرجال في كل شيء، فمن حق الزوج أن يغار، لكن فليعلم أن الغيرة نوعان: غيرة محمودة، وغيرة مذمومة، كما في الحديث الذي رواه أحمد والنسائي بسند حسن من حديث جابر بن عتيك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الغيرة ما يحبه الله، ومنها ما يبغضه الله) ، فأما الغيرة التي يحبها الله سبحانه فالغيرة في ريبة، الغيرة التي لها أسباب صريحة، ولها أدلة ومستندات واضحة، فهذه غيرة يحبها الله جل وعلا، وأما الغيرة التي لا يحبها الله سبحانه وتعالى فالغيرة في غير ريبة، والتي تبنى على الظن والأوهام والشكوك، وهذه الغيرة تخرب البيوت، وتدمر الأسر، وإذا أطلق الزوج لنفسه الخيال والعنان ربما اتهم زوجته بأبشع التهم، فلا بد أن تكون الغيرة منضبطة، بلا إفراط أو تفريط؛ حتى تستمر الحياة وتظل بيوت المسلمين مستورة.

ويقول الشيخ محمد صالح المنجد: إن الغيرة من الغرائز البشرية التي أودعها الله في الإنسان، وهي الحمية وكره شركة الغير في حق الإنسان، وهذه الغيرة شرعت لحفظ الأنساب، وهي مقصد من مقاصد الشريعة، ولو تسامح الناس بذلك لاختلطت الأنساب؛ ولذا قيل: كل أمة وضعت الغيرة في رجالها، وضعت الصيانة في نسائها.

ولقد اعتبر الشارع من قتل في سبيل الدفاع عن عرضه شهيداً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون أهله فهو شهيد). والله سبحانه وتعالى يغار، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن)، ولما قال سعد بن عبادة رضي الله عنه: [لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غَير مُصْفِحٍ ] فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أتعجبون من غيرة سعد! والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن) متفق عليه.

وفي الصحيحين في خطبته صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف أنه قال:»يا أمة محمد! والله إنه لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته. وغيرة الله صفة من صفاته سبحانه وتعالى، نثبتها له كما يليق بجلاله وعظمته، والمؤمن يستفيد من أسماء الرب وصفاته، ويتخلق بما يناسب ذلك منها في حق المخلوق وبما يليق، فإذا كان الله يغار والغيرة تناسب المخلوق؛ فإن المخلوق يغار أيضاً، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن المؤمن يغار.

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتني في ظل ما يعتني به علاج الغيرة، والغيرة أمر طبعي عند النساء، ومعروف ومنتشر، فإن من طبيعة النساء وقد كانت تربيته صلى الله عليه وسلم لزوجاته في قضية الغيرة تربية عظيمة، تدل على حكمته صلى الله عليه وسلم، وعلاجه للأمور بالرفق والتأني.

فعن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عند إحدى أمهات المؤمنين، فأرسلت إليه أخرى بقصعة فيها طعام، قيل إنها صفية وكان طبخها جيد للغاية، فأرسلت بصحفة من طعام إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان عند عائشة، فضربت عائشة يد الرسول الذي أتى بها وهي الجارية التي أتت بالصحن، ضربت يدها فسقطت القصعة فانكسرت من غيرتها، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكسرتين بغاية الهدوء فضم إحداهما إلى الأخرى، فجعل يجمع فيها الطعام الذي انسكب على الأرض، أو ألقي على الأرض، جمعه في الصحفة، بعد أن لم الكسرتين بعضهما إلى بعض، ويقول عليه الصلاة والسلام لمن معه: (غارت أمكم، كلوا).